جفاف وانهيار استيطاني …تصخم المدن وهجرة عارمة …التنمية المستدامة هي الحل

Posted: December 26, 2010 in Sustainable Development, هجرة جماعية, ثقافة المستقبل
Tags:

تحقيق : ضياء السراي

تصوير :صلاح ثابت


المياه عادت القهقري وفارقت الانهار والجداول ،ولم تقف هجرة المياه عند حد تلك الانهار والجداول الصغيرة او” الذنايب” (من اصل ذنب او مؤخرة وهي كلمة تطلق محليا على الاراض الزراعية البعيدة عن الانهار والجداول)،فقط بل ايضا تاثرت الابار المحفورة بهذه الكارثة ،فكلما انخفضت مناسيب المياه زدات ملوحة مياه الابار وصارت الحاجة ملحة لزيادة اعماقها، وكما عادت لتنطبق مقولة قديمة قد يصل عمرها الى 90 سنة ” فلاح صدور،ولاملاك ذنايب” ،عادت معها جدلية الرحيل وراء مصادر المياه كما في السابق ،لكن هذه المرة المياه التي انسحبت نحو الوراء سحبت خلفها الفلاحين وسكان القرى الريفية الذين تعتاش عليها مخلفة انهيار استطياني قد يكون غير ملحوظ لكنه خطير جدا وينذر بمخاطر كثيرة قادمة.

المياه تتسبب بانهياراستيطاني للسكان

هذا الانهيار الاستيطاني للسكان بدا على مستويات ضعيفة في عام 2006 لكنه اخذ يتزايد شيئا فشيئا خلال الاعوام التالية وكما رافقت عملية تقليص مياه الرافدين من منبعيهما ،كانت هنالك موجة عملاقة اجتاحت حياة الفلاح تمثلت بدخول الخضر والفواكه والمنتجات الزراعية من دول مجاورة جيدة النوعية  رخيصة الغت المنافسة من اصلها ،فلم يكن امامه الا ان يراقب كيف يخسر رزقه ومعيشته .


24 قرية في محافظة واسط وميسان هجرت و36 قرية في الحلة والنجف غادرها سكانها ،و44 قرية في البصرة والناصرية اقفرت على ذاتها واصبحت اطلالا ،اما السماوة فكان لها النصيب الاوفر وفيها قرى كثيرة وتجمعات سكانية اقل من القرى قد ترك سكانها مناطقهم… والسبب شحة المياه .

هذه هي النسب التي استطعنا الوصول اليها ،وهنالك اماكن كثيرة  بحاجة الى مسوحات مطولة وجولات كثيرة لكي تتكون صورة واضحة عن الاثر الذي خلفته شحة المياه على العامل السكاني ،الحكومة ليس لديها جهاز مختص بمثل هذه الامور وهذه القضية تتوزع على وزارات واجهزة عدة كل حسب اختصاصاها، فوزارة الزراعة كانت هي الوزارة الاولى التي يمكن ان تستخدم مدخلاتها ومخرجاتها في تحقيق معرفة اولية للاعداد التي هاجرت للعيش في المدن وضواحي المدن القريبة ،والحقيقة الساندة للموضوع هي انخفاض الانتاجية الزراعية لعام 2009 عن عام 2008  بنسبة 36% والمحافظات التي كانت تعد سلة غذاء قد تراجعت عن مراكزها السابقة مما يدلل وبوضح عن هجرة لمهنة لفلاحة ومن غير المعقول ان يسكن الفلاح في ارض لايزرعها ولاتعيله، لكن وزارة الزراعة تقف منذ ستة اشهر تقريبا عاجزة عن الوفاء بالتزامتها البسيطة تجاه الزراع والزراعة ولايمكنها ان تقوم بعمل اضافي كمعرفة الهجرة الفلاحية ونزوح قرى باكملها ومؤخرا جاءت الضربة القاصمة للفلاح العراقي عندما خفضت الحكومة اسعار محاصيل الحنطة والشعير الى النصف فافلس عدد كبير من الفلاحين الذين زرعوا مساحات كبيرة على امل ان تكون اسعار الحنطة والشعير للعام 2010 كاسعار الاعوام السابقة 2008/2009.


سجلات وزرة التجارة

وعلى جانب اخر فان وزارة التجارة وفرت لنا احصائات عن نسب التنقلات في سجلاتها الخاصة بنقل المواطنين من مراكز تموين الى اخرى، ورغم طول وصعوبة العمل الا ان الحصيلة كانت ان اشرت سجلات عام 2007/2008/2009 انتقال قرابة 3 مليون مواطن من النواحي والقرى والارياف الى مراكز المدن في الجنوب والوسط والمنطقة الغربية كما هو واضح في سجلات مديرية مراكز التموين الاليكترونية في الوزارة ، وعام 2008 شهد انتقال 3,3 مليون مواطن للمساحة الجغرافية المذكورة نفسها من القرى والارياف والنواحي البعيدة عن دجلة وروافدها ،لابل ان اكثر من 1500 وكالة تجارية للمواد الغذائية للتجهيز المحلي للمواطنين قد اغلقت في قرى كثيرة في عدة محافظات ، منها السماوة التي الغيت فيها وكالات مواد غذائية، كوكالة في قرية البيضة ، وقرية الوحدة وقرية ابو نعجة ، وقرية الساجت وقرى اخرى .  في الناصرية الغيت وكالات في قرى منها العتيبية والمنهاوية ،مهيدر، السبتة، الدوشمة،والجليبية،وهنالك قرى في محافظات اخرى قد الغيت وكالاتها بسبب هجرة سكانها الى المدن وضواحيها.


صمت اعلامي وغفلة حكومية

استاذ الجغرافية السكانية الدكتور جليل ضاري،يستغرب من سبب الصمت الاعلامي على تلك الظاهرة الخطيرة التي تقفل تدريجيا الجغرافية السكانية نحو دوائر اضيق واضيق وتبعا لحركة المياه ،فكلما تحركت المياه نحو الداخل تبعتها القرى ،والمهم في الامر ان هنالك بنى اجتماعية تنهار وتتشكل بنى اخرى داخلية قريبة من المدن ومن مصادر المياه ،وكما قل عدد القرى وتناقص سكانها فان المدن تنتفخ .

وعلى سبيل المثال فان الحلة مركز محافظة بابل كانت قبل سنتين ذات تعداد سكاني لايزيدعلى 300 الف  نسمة اما الان فسجلات التجارة توضح بان عدد سكان المدينة قد زاد وتضاعف ووصل الى 500 الف نسمة ، على جانب اخر فان محافظة واسط شهدت تضخما سكانيا في مركز مدينتها ،وصل الى 22% حسب ارقام وزارة التجارة الاولية الماخوذة من مراكز تموين تلك المحافظة.

ميسان نزح من اريافها الى مركز المدينة اكثر من 120 الف نسمة للاعوام الثلاثة المنصرمة ، ورغم غياب قاعدة معلومات سكانية دقيقة فان الانتقال من وكيل المواد الغذائية الى اخر يدون في سجلات التجارة الاليكترونية وهو ما اعتمدنا عليه في تحقيق النسب والبحث والتقصي انطلاقا من سجلات هذه الوزارة.

اثار النزوح السكاني

ولهذه الهجرة اثار وابعاد اضافة الى اسبابها التي اطلعنا عليها انفا ،يوضح تلك الاثار والابعاد مدير مكتب هيئة التخطيط الحضري والاقليمي الدكتور جواد الموسوي ،يذكر الموسوي ان الهجرة التي حصلت ابان السبعينيات من القرن المنصرم قد ادت الى تداخل تقاليد الريف بالمدينة ونشوء نظام اجتماعي مزيج من المجتمعين الريفي والمدني تغلبت فيه النزعة الريفية وطغت على المدنية فاصبحت المدينة وحتى هذا اليوم مضيف عشائري ذا هيئة مدنية وترى شيخ عشيرة المدينة يزاول عمله في دوائر الدولة وجامعاتها ومؤسساتها المختلفة ومساء وفي العطل يرتدي الزي العربي التقليدي ويجلس في مجالس الفصول العشائرية التي اضعفت دور القانون وقوت سلطة المحلات والمناطق الشعبية وتجمعات الاقرباء الاكبر والاكبر ،وهي قضية زادت من نسب الجريمة بلا ادنى شك ، يضاف الى ذلك لاثر السلبي على الهندسة المعمارية للمدينة ونظافتها حتى ادخلت مهنة رعي الاغنام وتربية الدواجن والخيل والحمير في وسط المدن وسببوا الى جانب ذلك الانتفاخ السكاني فترى اصغر عائلة تعدادها 5 افراد والمستوى الاعلى يكون 30 فردا كما هو حال مدينة الصدر وحي العامل والشعلة والراشدية ومناطق اخرى كثيرة .

من الاثار المنظورة للهجرة التي بدات تزاداد في الاونة الاخيرة الانفاق العالي جدا على المدينة التي تتزايد احتياجاتها هي الاخرى كلما زادت نسب السكان والوافدين اليها ، وعلى زمن النظام السابق قيدت الهجرة بقانون غير مباشر يمنع نقل سجلات النفوس من المحافظات الى العاصمة ومن القرى الى المراكز ومنع تسجيل العقارات باسماء غير السكان القدامى للمنطقة اضافة الى تقييد نقل البطاقة التموينية والتنقل بين المحافظات.

وهنالك اثار اخرى لاتزال تعاني منها الحكومة العراقية وهي ظاهرة التجاوز السكاني العشوائي على اراض الدولة المخصصة للاستثمارات ،وهذا تسبب  بتحديد الاستثمار واعاقته لاسيما وان اغلب الوافدين من الارياف الى المدن يرون ان النزل الطيني مناسب جدا فيحطون متاعهم في اي مكان وبالتالي يقلصون الاراضي المعدة للاستثمارت قرب المدن وعلى ضواحيها ويصعب مع ذلك ازالة تجاوزاتهم وهم اسرع مايكون الى التوطن والاستقرار ولانتشار وبعضهم يبدا بجلب البعض الاخر فتكون مستوطنات عشوائية تشوه المدن ومداخلها ومخارجها.

تقارير حكومية وارقام

وهنالك تقارير حكومية تبين بشكل غير مباشر قوة النزوح السكاني متمثلا بالهجرة من الريف الى المدينة ،تقرير وزارة البلديات في المحافظات عن نسب التجاوزات على ارضي الدولة وعقارتها لاغراض السكن العشوائي بلغت 67% من مجموع السكن الكلي في العراق اي ان السكن الاصولي القانوني فقط 43% .

امانة عاصمة بغداد قدرت نسبة التجاوز على اراضي الدولة في العاصمة ب61%.

وزارة التخطيط والمالية بينتا كلفة ازالة التجاوزات في العراق بمبلغ قد يتجاوز16 ملياردولار في المرحلة الاولى ومثلها للمرحلة الثانية من حملة رفع التجاوزات والسقف الزمني قد يفوق 5 سنوات .

وزارة الزراعة والري تعطيان فترة اقصاها عام 2030 لخلو ثلثي اراض البلد المستوطنة اصلا من ساكنيها بسبب شحة المياه وجفاف الانهر الفرعية والروافد ،والاعتماد بنسبة 70% على الابار لسد حاجات الشرب والاستخدام المنزلي للمياه ،بينما ستكون نسبة الاعتماد على الابار في الزراعة 77% ، وستتراجع الزراعة في العراق بنسبة 58 % خلال الفترة المنظورة للدراسة اذا مابقيت الاوضاع على حالها واستمرار تراجع مواسم الامطار .

وزارة التخطيط والمالية متفقتان على ان الزراعة لن تشكل 3% من موارد العراق ولن يكون بمقدورها ان تسد حاجة 5% من السكان خلال العشر سنوات القادمة وسترتفع تكاليف الانفاق على عمليات تامين المياه .

كيف يمكن حل هذه المشاكل؟

التنمية المستدامة هي الحل الوحيد لهذه المشكلة لانها تعطي رؤية واضحة عن كيفية علاج شحة المياه من خلال بناء مشاريع تدوير المياه واعادة انتاج كميات معينة من النسب المستهلكة منها ،اضافة الى استثمار موارد المياه وبناء مجمعات سكانية تعتمد على الزراعة بواسطة الامطار وبواسطة المياه الجوفية .

وفي هذا المجال تدخل التنمية المستدامة كحل جذري تقريبا لكل المشاكل المذكورة في الريف والمدينة من جراء النزوح وشح المياه والانفجار السكاني في المدن ،لانها تعطي حلول تعتمد التكنلوجيا والحكم الرشيد والمجتمع ذاته في وضع الحلول وتطبيقها.

وتعتمد التنمية المستدامة على المورد الطبيعي المتاح والمتوفر واستثماره وتنميته بالاعتماد على المورد البشري وراس المال المنمى ،وهي كلها منظومة تعتمد على التخطيط الصحيح والعلمي لتنتج لنا حلول منطقية وعلمية  .

وعلى سبيل المثال فان الحكومة معنية بتوفير بيئة جيدة لتثبيت القرى التي هاجرت واعادتها الى مواطنها بالاعتماد على ثروات المياه الجوفية التي تقدر بكميات كبيرة تغني الزراعة لعقود طويلة اذا ما سهلت الحكومة عوامل استثمارها للفلاح واول العوامل تلك الكهرباء وانظمة حفر الابار وربطها باليات الزراعة الحديثة ومكائن الري بالرش التي تقتصد بالمياه المستخدم للزراعة اضافة الى توفير القرى السكنية غير المكلفة المربوطة بشبكات نقل جيدة .

وان عجزت الحكومة عن فعل ذلك فان الاستثمار الخاص كفيل بحل هذه العقد ،وهي دعوة لكل مسئول حكومي للتفكير بمصير هذه الفئات السكانية العريضة والركون الى خبراء التنمية المستدامة لانهم الاقدر على وضع الحلول لهذه المشاكل .

Leave a comment